السلام عليكم
ابدأ بالتحية التي القتها السماء إلى الأرض عندما جاء الملاك مرسل من الله إلى العذراء مريم عليها السلام ليبشرها بميلاد السيد المسيح حيث بدأ حديثه معها وقال
السلام عليكي يا مريم
لذا
السلام عليكم أيها الإخوة والأخوات
إن ظاهرة التفرقة الدينية، وتصنيف البشر وفق المعتقد الديني الذي ينتمون إليه، هي ظاهرة غريبة عن مجتمعنا وبلادنا وتاريخنا، رغم ظهورها في العقود الأخيرة على الساحة العالمية، وعندما أقول أنها ظاهرة غريبة عن مجتمعنا فليس في الأمر مجاملة، إنما واقع مارسناه وعايشناه عبر تاريخنا المشترك الطويل، فالمشاركة الحضارية للمسيحيين ضمن هذه الحضارة التي تم الاصطلاح على تسميتها بالحضارة العربية الإسلامية، لهو بمثابة الصورة الجلية الواضحة، هذا العيش المشترك لأصحاب الأديان المختلفة ضمن المجتمع المشرقي، كما أن هذا الشرق امتلك المقومات المناسبة لنجاح هذا العيش المشترك بامتياز، إذ يتضح لكل دارس محايد لتاريخ المنطقة العربية، وضوح التنوع الديني الذي كان سمة غالبة على المشهد الحضاري والثقافي للمشرق العربي، على أرضية التسامح وقبول الآخر المختلف، وأن هذه الحضارة لم تجد أزمة أو مشكلة مع ذاتها في أن تحتوي بداخلها أدياناً منوعة، وكانت السمة الغالبة على هذا المشهد هي سمة التفاهم والتناغم وقبول الآخر، رغم كل ما في الآخر من اختلاف وتباين، إلا أنها وجدت في الآخر إثراءً وإغناءً للمفهوم العام للوجود المشترك في بقعة جغرافية محددة ألا وهي الشرق.
أن الجميع في هذا المشرق العربي فهم حقيقة التنوع من منظور فهمه لإرادة الله في خلقه، فهو الذي خلق الكون منوعا ومتعددا، وملونا ومختلفا، إلا أنه أوجد بداخله قابلية لقبول التنوع رغم الاختلاف، وقبول المختلف رغم التباين، والنجاح في انسجام المنوع وتناغم المختلف، وهذا الأمر كان واضحا جدا من خلال وجود هذا الكم من الثقافات والأديان والطوائف والفرق المنوعة، في الدين أو التوجه أو الثقافة، أو حتى التوجه السياسي، حيث أن كل شخص قد وجد هويته غير منقوصة في ظل هذه الثقافة وهذه الذهنية المنفتحة، لكن عندما أشير هنا إلى بروز ظاهرة التفرقة والمفاضلة، ومحاولة تصنيف البشر ضمن مصنفات ومجاميع معينة وفق الدين، فان هذا هو نتاج المرحلة في هذا العصر، الذي غابت عنه روح المحبة والوئام، وساد فيه روح العداء والاقتتال.
فنحن عندما نستذكر تاريخنا العربي لا ننسى هذه الإسهامات العربية المسيحية في محتوى الحضارة العربية، حيث أسهم أجدادنا في عملية النهضة الثقافية والرقي الحضاري والتنمية البشرية، من خلال نقل الثقافة وترجمة العلوم وملائمتها مع الخصوصية المشرقية، ثم التقدم خطوات وخطوات إلى الأمام في مجال تراكم العلوم ونهضة الشعوب، حتى كانت الإسهامات العربية المسيحية في المجال النضالي والتضحية في سبيل الأوطان والأديان والثقافة والحضارة، فنذكر على سبيل المثال لا الحصر، منصور بن سرجيوس: وزير المالية في الدولة الأموية، ويوحنا الدمشقي: الذي عمل وزيراً وكاتم أسرار الخليفة عند الأمويين، قبل أن يترهبن في دير مار سابا بالقرب من بيت لحم، ويصبح من المع اللاهوتيين العرب، وهذا عيسى العوام: القائد في القوة البحرية في جيش صلاح الدين، والذي كان له إسهاماته الواضحة في طرد الغزاة الفرنجة من أرضنا، وغيرهم الكثير في التاريخ، كما ان هناك العديد من الأسماء اللامعة في حقبة ما قبل الإسلام، أمثال: حنظله الطائي، الذي كان رمزا من رموز الوفاء النادر، والشاعر المشهور، امرؤ ألقيس، الذي علقت قصائده على جدران الكعبة لتميزها وتفردها، وهذا حاتم الطائي، صاحب الكرم الأسطوري، من قبيلة طي المسيحية العربية، والملك النعمان بن المنذر، قاهر الفرس، وابنته هند بنت النعمان التي كان لها الفضل في توحيد وجمع كلمة العرب واتحادهم معاً في معركة ذي قار، وهزيمة كسرى الفرس، تلك التي بنت العديد من الأديرة في العراق، وهذا جبله بن الايهم، ملك العرب الغساني.
إن في تاريخنا الحديث العديد من الأسماء اللامعة التي سطرت بطولات حقيقية في صفحات النضال ضد الاستعمار والاحتلال وقهر الإنسان ونبذ الاستبداد، فهذا الشهيد كمال ناصر الذي اغتاله الموساد إثر عملية كوماندو خطره في بيروت، وذلك لإدراكهم خطورته وزملائه الآخرين على أمنهم، المطران إيليا خوري، المطران المشارك في الكنيسة الأسقفية بالقدس والشرق الأوسط، عضو المجلس الوطني الفلسطيني، والأب إبراهيم عياد، أحد ابرز مؤسسي منظمة التحرير الفلسطينية، وفي المجال الثقافي والإبداعي فهذا حنا أبو حنا وأنيس صايغ وحنا مينا وجبران خليل جبران، إيليا أبو ماضي ومي زيادة وميخائيل نعيمه، وغيرهم الكثير والكثير والقائمة طويلة، حتى أن العديد من الأدباء والمبدعين من إخوتنا المسلمين كانوا قد تلقوا تعليمهم في مدارسنا ومعاهدنا التي كانت سباقة في مجال التعليم الحديث وتقديم ما هو مميز لأبناء امتنا، وهنا أحب أن أذكر الشاعر الفلسطيني الشهير إبراهيم طوقان، الذي تلقى جزء من تعليمه في مدرسة المطران بالقدس، ثم أصبح مدرسا فيها لغاية وفاته بداية الأربعينيات من القرن الماضي.
عندما نتحدث عن الدين، فانه ومن المفترض أننا نتحدث عن قوة الحق وليس عن حق القوة، نتحدث عن المحبة والتسامح وقيم العدالة والمساواة، لذلك فان كل من يتحدث عن الدين ولا يشير إلى هذه القيم العظيمة، فان المنطق الذهني والتوجه الفكري والعمق الإيماني لا يقبل أن يكون الحديث هكذا، بل أن القيم العليا والمثل العظمى مرتبطة دائما بمدى فهم الإنسان وتطبيقه للقيم الدينية العليا، وهذه التي تسير بالإنسان إلى حياة أفضل للبشر، وهذا قول السيد المسيح في الإنجيل المقدس: أتيت لتكون لهم حياة، ولتكن هذه الحياة أفضل (يوحنا10:10) من هنا نفهم أن المفاضلة ليست بالدين بقدر ما هي بالحياة، وهذا قول السيد المسيح في إنجيله المقدس أيضا:
.... أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ؟ 26اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟ 27.... تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ. 29وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا. 30فَإِنْ كَانَ عُشْبُ الْحَقْلِ الَّذِي يُوجَدُ الْيَوْمَ وَيُطْرَحُ غَدًا فِي التَّنُّورِ، يُلْبِسُهُ اللهُ هكَذَا، أَفَلَيْسَ بِالْحَرِيِّ جِدًّا يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ (متى6: 25-30)
وفي السياق ذاته يذكر القرآن الكريم: ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (سورة الإسراء الآية 70) فالمفاضلة واضحة هنا أيضا من أنها لبني آدم عموما، إذ فضلهم الله عل كثير ممن خلق، وهذا ما يدعم قولنا سابقا من أن المفاضلة بالحياة وليست بالدين.
أعزائي:
من خلال كتاب تغطية الإسلام للكاتب والمفكر الكبير ادوارد سعيد، والذي نشر أولا باللغة الإنجليزية تحت عنوان (Covering Islam) يسهب الكاتب في مجال تشكيل الصور النمطية (Stereo types) عن الكثير من أمم العالم أمام الرأي العام الغربي وتحديدا الأمريكي، وكيف أن الإعلام بكل أشكاله (Media) يبلور الصور أمام المجتمع الغربي عن الشعوب، ومن ضمن ما شكّل من صور نمطية خاطئة في معظمها، كانت تلك الصور التي تتناول العرب والمسلمين، ولكوني عربي، فأنا من الذين عانوا ويعانون من هذا التوصيف، وهنا يأتي دور المسيحي العربي الذي يعرف الشرق جيدا، حيث عاش تلك الحياة المشتركة مع الإسلام، واسهم في بناء حضارة وثقافة الشرق، يأتي دوره في هذه المسألة ليكون شريكا حضاريا كاملا للمشرقيين بكل ألوانهم ليقف وقفة حق كي يظهر الأمر جليا للعالم ويوضح أخطاء الصور النمطية التي تسيء للجميع وهذا ما قام به المفكر العظيم ادوارد سعيد من خلال عدة كتب كالاستشراق و تغطية الإسلام وغيرها.
من هنا تأتي المسؤولية الملقاة على عاتقنا نحن القيادات الدينية في العالم، وخاصة قيادات الأديان الرئيسية، علينا أن نتحلى بالشجاعة الكافية القادرة على إيضاح الصورة الحقيقية، وان نكون أكثر انفتاحا على بعضنا البعض هنا في الشرق وعلى الآخر في كل مكان، حتى نظهر حقيقة القيم الإيمانية المشتركة التي تقدم الدين على انه محرك ايجابي في الحياةـ وقوة مؤثرة في بسط السلام على الأرض، يدفع عجلة التنمية ويؤثر ايجابيا في الحضارة والثقافة والعلم.
إخواني:
كان لنا ماض عريق، وإسهام في الحضارة العالمية، وكنا في الصف الأول بركب الحضارة العالمية، فدعونا نعمل كي يعود وضعنا كما كان في مقدمة الشعوب، إن الله بمحبته الغامرة، لم يرضى أن يكون الإنسان ملوثا بالخطيئة التي ارتكبها بإرادته الحرة والتي أدت إلى قطع العلاقة بينه وبين الله، فبادر الله لبناء جسرا يعيد فيه علاقته بالإنسان الذي خلقه وأحبه، فكان السيد المسيح ذلك الجسر الذي أعاد العلاقة مرة أخرى، هذا هو إيماننا في أن الله هو المبادر الأول نحو بناء الجسور والتلاقي من اجل حياة أفضل، دعونا اليوم أن نبني جسورا لا جدرانا في هذه الحياة، كي نتواصل ونتفاعل ايجابيا فيما بيننا ومع شعوب الأرض قاطبة، نتعرف على بعضنا البعض وعلى إيمان واديان بعضنا البعض في جو من احترام الاختلافات بكل ايجابية وانفتاح.
اختم بقول المسيح:
طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه (أي يعملون به) (لوقا 11: 28)
سلام لكم.